في أوائل تسعينيات القرن الماضي، قام فريق من الباحثين في جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين Illinois Urbana-Champaign (UIUC) – باكتشاف أحدث ثورة في صناعة التكنولوجيا على مستوى العالم، هذا الاكتشاف أدى لأن تصبح شبكة الانترنت أكثر شعبيةً بين الناس، حيث كان استخدام الانترنت قبل ذلك الوقت مقتصر على من لديهم مهارات عالية في استخدام الحاسب الآلي من مهندسين ومطورين أنظمة معلومات ومبرمجين.
هذا الاكتشاف كان بقيادة مارك أندريسن (Marc Andreessen) وإريك بينا (Eric Bina)، حيث طور الباحثون – في جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين Illinois Urbana-Champaign (UIUC) – أول متصفح ويب (Web Browser) بواجهة مستخدم رسومية (Graphical Interface)، أطلقوا عليه اسم ميوزيك (Mosaic). هذا الابتكار مهد الطريق لتصبح الانترنت الفضاء التجاري العالمي الجديد، أدى ذلك لزيادة كبيرة جداً في عدد المواقع الالكترونية في فترة التسعينات الميلادية بسبب سهولة بناءها والتعامل معها من خلال متصفح الميوزيك (Mosaic).
تم إصدار متصفح ميوزيك (Mosaic) في عام 1993م كبرنامج ”مجاني“ يسمح للمستخدمين بتصفح الإنترنت وعرض المحتوى متعدد الوسائط – أي المحتوى الذي يشمل على الصور والفيديوهات بالإضافة للنصوص. ماجعل متصفح ميوزيك ينجح هذا النجاح الكبير عدة عوامل ولكن أهمها ”سهولة الاستخدام“ و ”دعمه للروابط التشعبية – Links“ التي تربط صفحات المواقع الالكترونية ببعضها البعض. هذه السهولة في الاستخدام كانت أكبر العوامل التي شجعت المستخدمين الذين لا يمتلكون خبرات تقنية على استخدام الانرتنت والتنقل بين صفحات الويب المختلفة والمتعددة، فكان حينها من السهل على أي رجل او سيدة ليست لديهم أي خبرة او خلفية تقنية من تصفح المواقع الالكترونية والتعامل معها، حيث كان متصفح الميوزيك يعرض كل شي على شكل صور ورسومات ونصوص، يتنقل الشخص بينهم بمجرد الضغط على روابط على صفحة الموقع. هذه السهولة في الاستخدام أدت إلى الاقبال الكبير من الناس على هذا المتصفح الذي كان فريداً من نوعه حينها!
نجاح ميوزيك (Mosaic) دفع أندريسن وبينا إلى تأسيس شركة نتسكيب للاتصالات في عام 1994م، والتي طورت متصفح نتسكيب نافيقيتور (Netscape Navigator browser). كان الاكتتاب العام الأولي لشركة نتسكيب في عام 1995م واحدًا من أنجح الاكتتابات التقنية في ذلك العقد الزمني، حيث جمع مبالغ كبيرة جداً، وأحدث “طفرة الدوت كوم” في أواخر التسعينيات، وذلك عندما سارعت العديد من الجهات الحكومية والخاصة لتأسيس مواقع لها على شبكة الانترنت التي اصبح من السهل الوصول لها وتصفح مواقعها عن طريق عدد من المتصفحات أهمها وأولها متصفح ميوزيك (Mosaic).
متصفح ميوزيك وتأثيره الكبير على عالمنا اليوم، هو مثال واحد فقط على المنتجات او الخدمات التي ولدت من رحم الجامعات ومعامل الابحاث والقاعات الدراسية، يعززه كذلك مثال شركة قوقل (Google) التي أيضاً انطلقت من جامعة ستانفورد. هذه الشركات العملاقة وغيرها العديد من الامثلة على شركات تميزت في الاسواق العالمية كانت نتيجة افكار بدأت وتبلورت من الجامعات لتتحول لاحقاً لمنتجات او خدمات (سواءً في المجال الصحي او المالي او العسكري او التعليمي او الاداري او القانوني) ساعدت ومازالت تساعد في تطوير حياة البشر للأفضل. هذه الأمثلة تبين الإمكانات الهائلة للأبحاث الأكاديمية والدور الريادي للجامعات في دفع الابتكار التقني والغير تقني للأمام وخلق بيئات ابتكارية متميزة ينتج عنها صناعات جديدة وطرح تصورات فريدة ونوعية لم تكن موجودة وجميعها تهدف لرفع جودة حياة الانسان.
هل الأكاديميا تركز على الشق النظري فقط؟
من تنقصه المعلومة عن الدور المهم للجامعات في تزويد الصناعة والتجارة وبقية المجالات الأخرى بأفكار ونظريات بل وحلول تطور وتحسن من العمل، قد يعتقد ان العمل الاكاديمي يتمحور جُلَُه حول النظريات وتفسير الظواهر. بل قد يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، كأن يصف الأكاديميا وماتنتجه الجامعات بعدم الفائدة او عدم مناسبته للمجتمع او الصناعة!!
من يمتلك نظرةً كهذه بكل تأكيد هو شخص غير مطلع على طبيعة العمل الأكاديمي او لا يستوعب الدور الذي تلعبه الجامعات وماتنتجه من علوم ومعارف وأبحاث ودور ذلك كله في النهضة التي يعيشها العالم.
صحيح أن الأكاديميين يقضون وقتًا كبيرًا في اكتشاف وتطوير النظريات واختبار الفرضيات وهذا هو جمال العمل البحثي، حيث يسعى الباحث دائماً خلف الاسئلة التي ليس لها تفسير واضح او اجابة مقنعه من قبل، لذلك تجده يقوم بالعديد من التجارب التي قد تستغرق سنوات عديدة ليصل فقط إلى معلومة واحدة بعد كل تلك السنوات الطويلة والتي ربما تعطيه تفسير او اجابة عن ماكان يثير فضوله ويبحث عنه! ولكن ما لا يعلمه بعض الناس (خصوصاً من هم خارج المجال الاكاديمي)، أن العديد من الأكاديميين بمختلف الجامعات حول العالم يشاركون بنشاط في تحويل أعمالهم النظرية إلى تطبيقات عملية، بالتعاون مع شركاء من الصناعة من خلال الدعم الذي تقدمه الجهات المانحة من القطاع الحكومي او الخاص سواءً الربحي او غير الربحي للعديد من الابحاث في الجامعات او مراكز الابحاث التي تهدف لإيجاد حلول لمشاكل وتحديات قائمة، وبعضها قد تكون ذات أولولية عاجلة.
ولمعرفة تأثير الأكاديميا القوي والواضح على عالمنا اليوم، ادعوك للتدقيق في أسماء العديد من الفائزين بجائزة نوبل – والتي تعتبر أرقى الجوائز العالمية، والتي لا تعطى إلا لمن كانت أبحاثه او أفكاره ذات أثر كبير، نجد أن أغلبهم سبق وان عملوا او حتى مازالوا يعملون إما في جامعات او مراكز أبحاث، حيث استغلوا سنوات عملهم تلك في العمل على العديد من التجارب التي أدت بشكل أو آخر لاستخدامات مفيدة لها تأثير ايجابي على حياتنا كبشر!
الجامعات كانت ومازالت مصانع ومراكز للفكر والابداع والابتكار، وتحاول دائماً تدوين براءات الاختراع والافكار المميزة وتحويلها لمنتجات او خدمات اما عن طريق تأسيس شركات تكون على شكل أذرع استثمارية لها او من خلال ربط باحثيها وطلابها بمن يساعدهم في تحويل تلك الافكار وبراءات الاختراع إلى واقع ملموس تستفيد منه الاسواق المحلية والعالمية.
كما ان الاكاديميين – خصوصاً من لهم تجربة عملية خارج الجامعات او احتكاك بالقطاع الخاص – ومن خلال سعة اطلاعهم في تخصصاتهم المختلفة وفهمه العميق القائم على القراءة النقدية والتجارب العلمية البحثية التي قاموا او يقومون بها هم أعضاء فاعلين في العديد من الاحيان في صنع السياسات والانظمة والقوانين والتشريعات داخل الوكالات الحكومية او حتى الخاصة، وذلك بسبب فهمهم العميق للقضايا المعقدة، هذا الفهم الذي يساعد في اتخاذ القرارات وتشكيل السياسات التي لها تأثير حقيقي على أرض الواقع.
من المهم دائماً أن ندرك أن السعي وراء المعرفة و تطوير النظريات و اختبار الفرضيات والتي تعتبر لب وجوهر العمل الاكاديمي – لها قيمة في حد ذاتها، حيث ان كل ذلك (1) يوسع حدود الفهم البشري و (2) يضع الأساس للابتكارات المستقبلية. لذا يعتبر تحقيق التوازن بين البحث النظري والتطبيقي أمر حيوي لدفع عجلة التقدم ومعالجة القضايا المعقدة التي تواجه العالم اليوم. ومالتطور والتقدم الذي يعيشه العالم منذ القدم إلا نتيجة أفكار جديدة ومبتكرة تم تبنيها وتطبيقها لتظهر على شكل خدمات او منتجات يستخدمها الانسان لتسهيل حياته! وستستمر الجامعات كمنارات للعلم والمعرفة ومصانع للأفكار والابداع والابتكار تزود العالم دائماً بكل مفيد ونافع.