في كل موسم صيف من كل عام، نعيش في غالب مدن المملكة أجواء صيف حارة، وهذا طبيعي ولا غرابة فيه، فنحن في مكان من العالم تغلب عليه طبيعة الصحراء، حيث لدينا أشهر صحاري العالم، وهي صحراء الربع الخالي، وكذلك صحاري الدهناء والنفود، وغيرها من المواقع الصحراوية المتوزعة في مناطق متفرقة من المملكة. لذلك لا نتعجب حين تكون درجات الحرارة مرتفعة في غالب مدننا والقرى التابعة لها، ما عدا جنوب المملكة الذي يعد المصيف الأبرد في وطننا الغالي.
وفي كل صيف يكرر بعض الأشخاص التضجر من الحر، ولكن بطريقه مبالغ فيها، ولعل الإنترنت بشكل عام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص ساعدت على زيادة هذا التضجر المبالغ فيه، وذلك حين يشاهد البعض الأجواء المطيرة والباردة خلال فصل الصيف في بعض دول العالم، التي يقصدها المصطافون والمسافرون، والتي تزخر بالمناظر الطبيعية الخلابة من تلال خضراء وأنهار وبحيرات عدة.
من حق الجميع أن يستمتع بأي نوع من الأجواء التي يريد، سواء أكانت أجواء باردة أم معتدلة أو حتى لو أراد الأجواء الحارة، فلكل شخص رغباته وما يحب، ولكن لا يجب أن نردد وبضجر مبالغ فيه عبارات توضح انزعاجنا الشديد من صعوبة الأجواء لدينا، فهذا وطننا وفيه عاش آباؤنا وأجدادنا، بل إن جيل الآباء والأجداد عاشوا في ظروف صعبة، حيث لم يكن لديهم أي نوع من أنواع الرفاهية، فعلى هذه الأرض ساروا على الأقدام، وقطعوا الصحاري الشاسعة بحثا عن أسباب الرزق والكلأ والمراعي والتجارة وغيرها.
وربما هلك بعضهم بسبب تلك الرحلات الصعبة جدا والشاقة، ولكنهم رغم ذلك كانو يتغنون بحب هذه الصحاري والجبال، وينشدون فيها أجمل الأبيات والأشعار.
يقول الوزير الشاعر الدكتور غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ في قصيدته «يا صحراء»:
وطفت الكون لم أعثر *** على أجدب من أرضك
على أطهر من حبك *** أو أعنف من بغضك
عدت إليك يا صحراء *** على وجهي رذاذ البحر
وفي روحي سراب بكاء *** وطيف سابح في السحر
وومض ضفيرة شقراء *** وفي شفتي بيتا شعر
وأغنية بلا أصداء *** رجعت إليك مهموما
لأني لم أجد في الناس *** من يؤمن بالناس
رجعت إليك محروما *** لأن الكون أضلاع بلا قلب
لأن الحب ألفاظ *** مجردةٌ عن الحب
رجعت إليك مهزوما *** لأني خضت معركة الحياة
بسيف إحساسي *** وعدت إليك
ألقيت بمرساتي على الرمل *** غسلت الوجه بالطل
كأنك عندها ناديتني *** وهمست في أذني
رجعت إلي يا طفلي؟ *** أجل أماه..
عدت إليك *** طفلا دائم الحزن
تغرب في بلاد الله *** لم يعثر على وكره
وعاد اليوم يبحث فيك عن عمره *** وعدت إليك يا صحراء
ألقي جعبة التسيار *** أغازل ليلك المنسوج من أسرار
وأنشق في صبا نجد *** طيوب عرار وأحيا فيك للأشعار والأقمار
هذه الصحاري الشاسعة وتلك الجبال الشاهقة والأودية الموزعة في كل مناطق المملكة، إنما كانت شاهدة وعلى مر العصور على قامات تاريخية كبيرة في كل المعارف والفنون، عاشوا وتنقلوا ثم ماتوا وهم يدافعون عن أرضهم وثقافتهم ومساكنهم، وعلى رأس تلك القامات جميعها صفوة الخلق رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام، فبمكة والمدينة ترعرعوا وعاشوا وجالوا غالب مدن الجزيرة العربية، مشيا على الأقدام أو ركوبا على دوابهم، حيث الأجواء الحارة وقلة المياه والأمطار، ولكن رغم ذلك لم يتضجروا وصبروا واحتسبوا، ولم يفارقوها رغم قدرتهم على ذلك.
بل ورد في السنة النبوية أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان حين يشتد الحر في وقت الظهيرة في المدينة يذهب إلى بساتينها بحثا عن الظل، وهربا من الشمس الحارقة.
أليس هذا هو المصطفى؟! أليس هذا هو أشرف الخلق؟! أليس هذا هو الذي لو أراد النعيم لنعّمه الله وبعثه في أبرد الأماكن وألطفها جوا؟! ولكن هي حكمة الله واصطفاؤه لهذه الأرض ومحبته لها، ولذلك اجتباها لآخر رسالاته وجعلها مسكن آخر أنبيائه صلى الله عليه وسلم.
أي شرف هذا؟ وأي فضل هذا؟. في الحقيقة، هذا شرف لا يعادله أي شرف، وفضل لا يضاهيه أي فضل آخر.
اليوم، في هذا الوطن المبارك، توجد كل وسائل التطور والراحة والمواصلات والرفاهية بكل أنواعها، بل إن كثيرا من الخدمات لدينا هي إما أنها لا توجد في بعض دول العالم، أو أنها أفضل من تلك التي توجد حتى في بعض الدول المتقدمة.
سافر وكن سائحا في الأرض وعش كما شئت، ولكن اشكر الله ـ عز وجل ـ أن جعلك من سكان هذا الوطن الغالي، فكثير من شعوب الأرض تتمنى أن تزور هذا البلد ولو مرة في حياتها، وقل الحمد لله أولا وآخرا، وحتى إن أزعجك الجو الحار، لكن لا تتضجر بطريقة مبالغ فيها، تدل على عدم إدراكك نعمة المكان الذي تعيش به.