يسأل البعض أحياناً عن سبب اختلاف الاهتمامات بين الأكاديميين وبين الصناعيين! وللتوضيح هنا فالمقصود بالصناعيين في هذا المقال هم العاملين في أي قطاع يقدم منتجات وخدمات ربحية ام غير ربحية سواءً أكانت تابعة للقطاع الحكومي ام الخاص.
لعل أهم اختلاف وأوضحه بين الأكاديميا والصناعة هو الاختلاف في عامل الوقت، فطبيعة العمل الأكاديمي والنتائج التي يصل إليها الأكاديميين غالباً ما تكون مكلفة زمنياً، أي انها تحتاج إلى مدة من الوقت تمتد أحياناً إلى عدة سنوات وتصل أحياناً إلى عقود من الزمن. أما بالنسبة للصناعيين فمسألة الوقت والسرعة في الإنجاز وتحقيق الأهداف سواءً أكانت هذه الأهداف مادية ام معنوية هو أمر لا يقبل النقاش وحاسم، حيث أن مسألة بقاء تلك الشركة او الجهة على قيد الحياة مرتبط بتحقيق تلك الأهداف.
وبالنسبة للشخص العامل في المجال الصناعي، النتيجة النهائية التي يريد الوصول إليها واضحة غالباً، كل ما عليه هو تنفيذ خطة العمل بإحكام حتى يحصل على المطلوب، وإن أخفق في الوصول إلى النتيجة التي يرغب بها فذلك يعود لعدم تطبيق ما تم التخطيط له بشكل جيد او ظهور معوقات وتحديات منعته من نجاح تطبيق الخطة والحصول على النتائج المرجوة. على سبيل المثال، مدير مصنع أجهزة الكترونية، قد يضع خطة في بداية العام ويكون احد اهم اهداف هذه الخطة هو انتاج مليون جهاز الكتروني، وبناءً على هذا الهدف المهم يتم وضع آلية العمل ويتم البدء بالتنفيذ، وسواءً نجح هذا المدير في الوصول للهدف وذلك بإنتاج مليون جهاز إلكتروني أم لا، فمعرفة المطلوب من البداية هو امر واضح بالنسبة له ولفريقه. كذلك العاملين في المجال الصناعي يهمهم بشكل كبير إرضاء العميل الذي يقوم بشراء منتجاتهم او الاستفادة من خدماتهم، حيث أن ازدهار تلك الشركة او الجهة مرتبط بكسب ولاء العملاء ورضاهم عن المنتجات او الخدمات المقدمة لهم. أيضاً، من يعمل في القطاع الصناعي او الخدماتي لا يمكن له العمل بمفرده غالباً حيث أن عمله وانتاجه مرتبط بتعاون الآخرين معه او مشاركته فيما يقوم به.
في المقابل بالنسبة للأكاديمي، فعدم وضوح الرؤية فيما يخص النتائج هي طبيعة عمله. ولكي يكون الحديث دقيقاً هنا، فإن المقصود عند الحديث عن عمل الأكاديمي هو الشق البحثي وليس الشق المتعلق بالتدريس. فالتدريس للأكاديمي هو عمل يؤديه ويقوم من خلاله بتعليم الطلبة المعرفة والمهارات المطلوبة. ولكن كل ما يقصد في هذا المقال عند ذكر العمل الاكاديمي هو الشق البحثي.
الأكاديمي يقوم بطرح الأسئلة البحثية في بداية بحثه وهو لا يملك الاجابة عليها بعد، ولا يعرف حتى كيف ستكون النتائج، ولكي يجيب على تلك الأسئلة لا بد عليه من القيام بعدد من التجارب والمشاريع البحثية التي ربما تؤكد ما كان يعتقد او تنفيه، او ربما تكشف له ما لم يعرفه او حتى يتوقعه. أحياناً، يستمر العمل في تلك الأبحاث لعدة سنوات بدون ان يصل الباحث لنتيجة واضحة او مرضية، وفي أحيان أخرى يضطر ان يتخلى عن بعض مشاريعه البحثية وتغيير مسار الأبحاث بعد عدة سنوات ان أدرك عدم وجود فائدة او نتائج واعدة في ما كان يعمل عليه من أبحاث. هذه الطريقة في العمل قد تكون مملة لبعض الأشخاص او الجهات حين يكون هدفهم هو الحصول على نتائج سريعة. العديد من العلماء الباحثين الحاصلين على أرقى الجوائز العالمية مثل جائزة نوبل هم باحثين قضوا جزء من حياتهم في أبحاث لم تعطي نتائج إلا بعد عدة أعوام بعضها أخذ من وقت هؤلاء العلماء اكثر من 20 سنة من الأبحاث والتجارب التي كانت تتذبذب بين الفشل والنجاح تارةً وتارة.
في الأكاديميا، يستطيع الأكاديمي ان يعمل لوحده وينتج أبحاث بمفرده ويستطيع كذلك أن ينضم لمجموعة من الباحثين للعمل على المشاريع البحثية المشتركة والتي تتقاطع فيها اهتمامات الباحثين مع بعضهم البعض، وهذا بخلاف العاملين في المجال الصناعي الذي يتطلب عملهم وجود فريق عمل. أيضاً، المعرفة والمفاهيم والمعلومات هي أساس ومحور العمل في المجال الأكاديمي، وهنا تكمن قوة الاكاديمي، حيث يتبادل الباحثين غالباً الأفكار والمعرفة والآراء العلمية وهذا هو لب عملهم وأساسه.
الحقيقة التي لا يمكن لشخص منصف ان يجادل فيها، ان العديد من الاختراعات والاكتشافات العلمية التي ينعم فيها العالم اليوم في الفيزياء والكيمياء والأحياء والهندسة والحاسب الآلي والصحة وغيرها والتي غيرت حياة البشر اليوم للأفضل هي نتيجة عمل مضني وشاق من الباحثين تطور مع الوقت، وبعد ان تم اثبات منفعته تحول من معامل الأبحاث للعاملين في المجال الصناعي ليخرج على شكل منتجات و خدمات مفيدة.
ولأهمية المعرفة والمعلومات والأفكار التي يقدمها الأكاديميين، تقوم العديد من الجامعات ومراكز الأبحاث حول العالم إما بإنشاء مكاتب تعاون بين الأكاديميا والصناعة مهمتها هي تحويل تلك الأفكار والمعرفة لمنتجات وخدمات يستفيد منها المستهلك او إنشاء شركات تملكها تلك الجامعات ومراكز الأبحاث هدفها هو تسويق الاكتشافات التي توصل لها العلماء والباحثين وتحويلها لمنتجات وخدمات تصل للمستفيدين في مختلف الأسواق.
في الواقع، الاختلاف بين الأكاديميا والصناعة هو اختلاف في الأولويات ولكنه في نفس الواقع تكامل في الأدوار، حيث ان الأكاديميا تأخذ على عاتقها دور توليد المعرفة والأفكار والحلول واكتشاف المجهول، وتأخذ الصناعة على عاتقها دور تحويل تلك الاكتشافات والأفكار لمنتجات مفيدة ونافعة للعالم.
وليستمر العالم بالازدهار، سيستمر التعاون بين الأكاديميا والصناعة دائماً.