هل سبق ان سمعت بأن عدد كبير من الادوات والاجهزة التي نستمتع بها اليوم هي نتيجة الاكتشافات خلال اوقات الحروب او التوتر والعداء بين الدول؟! ان لم تسمع بذلك من قبل، انصحك إذاً بالتوجه للسيد قوقل وكتابة جملة مثل (تأثير الحروب على الاكتشافات البشرية؟) او اي عبارة في نفس هذا السياق والمعنى، لتحصل على نتائج بحث عديدة تتحدث عن اهم الاكشتافات التي تم تقديمها للبشرية خلال اوقات الحروب ولعل اهمها: الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية!
من اهم واشهر تلك الاكتشافات هي أجهزة الكمبيوتر، والعديد من اجهزة الاتصالات سواءً السلكية او اللاسكلية. لن أُسهب في هذا الموضوع كثيراً، ولكن إن أردت عزيزي القارئ المزيد من المعلومات عن اهم تلك الاختراعات يمكنك زيارة هذه الصفحة على ويكيبيديا (التكنولوجيا خلال الحرب العالمية الثانية) ومنها يمكنك الانتقال لصفحات أخرى، تؤكد لك ماذكرته في الأسطر السابقة.
خلال أوقات الحروب يزداد الضغط على قادة الدول لإيجاد حلول عملية تساعد في التفوق العسكري والهيمنة، وهذا مايدفعهم لضخ الاموال الضخمة لتطوير التقنيات والادوات التي تمكنهم من هزيمة الخصم! مع الانفاق المالي الكبير، يشعر الناس أيضاً بالحس الوطني العالي في العمل الجاد لضمان عدم هزيمتهم امام العدو، وهذا مايجعل أغلب الناس يعملون بلا كلل ولا ملل، وبروح وطنية لا تٌهزم ليبقى وطنهم شامخاً وبدون أي ضرر!
لنعد الآن للحديث عن كيفية ظهور شبكة الانترنت!؟ وماهي العوامل التي أدت لتسريع العمل على هذه الشبكة الهامة، التي لا يمكن ان نستغني عنها البتة في وقتنا الحاضر!
في نهاية خمسينات القرن الماضي، كان الرئيس الأمريكي إيزنهاور – وهو الرئيس الرابع والثلاثون للولايات المتحدة الامريكية والذي دامت مدته رئاسته 8 أعوام من عام 1953م الى عام 1961م – مؤمن بأن الولايات المتحدة الامريكية هي القوة الاعظم في العالم وأنه لا يمكن لأي دولة من التفوق عليها. هذه النظرة اقتنع بها كذلك الشعب الامريكي وأصبحوا ينظرون لأنفسهم بأنهم الشعب الذي لا يٌقهر! ولكن وعلى حسب مايذكر السيد ستيفن براينت، في كتابه المعنون بـ (قصة الانترنت – The Story of the Internet)، تصدع هذا الايمان عندما تفاجئ العالم كله بتاريخ 4 أكتوبر 1957م بخبر صعود الروس للفضاء، وذلك من خلال قمرهم الصناعي سبوتنيك (Sputnik). وقع هذا الخبر على الرئيس ايزنهاور ومساعديه واعضاء حكومته كالصاعقة، وأصبح خبر القمر الصناعي الروسي هو حديث الشعب الامريكي والعالم أجمع!
بدأ شعور القلق والخوف يعتري المسؤولين الأمريكان، فكيف يمكن للروس ان يتفوقوا على القوة الامريكية الجبارة في ذلك الوقت، ويصعدوا للفضاء بقمر صناعي يعطي الاتحاد السوفيتي الافضلية في التفوق التنقي والمعلوماتي! مما يعني التهديد الصريح للولايات المتحدة الأمريكية. بعد خبر صعود القمر الصناعي الروسي سبوتنيك (Sputnik) في الفضاء – وعلى حسب ماذكره السيد ستيفن براينت في كتابه المذكور آنفاً – استدعى الرئيس الامريكي إيزنهاور مباشرةً وزير دفاعه السيد نيل ماك إلوري (Neil McElory) وسأله عن ماذا يمكن للولايات المتحدة عمله تجاه هذا الموضوع (أي موضوع ارسال الروس للقمر الصناعي للفضاء)! دار بين الرئيس ووزير دفاعه حديث حول أهمية بقاء الولايات المتحدة متفوقه في كافة المجالات على الروس، وطلب الرئيس من وزير الدفاع بأي يقوم بالتحرك وبشكل عاجل لإيجاد إدارة تهتم وتدير كل مايختص بالتقدم التقني للولايات المتحدة.
في 7 يناير من عام 1958م – اي بعد أقل من ثلاث أشهر من اطلاق الروس لقمرهم الصناعي في الفضاء – أعلن الرئيس ايزنهاور للشعب الامريكي عن انشاء منظمة حكومية تدعي ARPA وهي اختصار للكلمات (Advanced Research Project Agency) وتعني باللغة العربية (وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة)، والتي عرفت فيما بعد بإسم (Defense Advanced Research Projects Agency – DARPA) وتعني وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة، ولعله يتضح من المسمى طبيعة التوجه العسكري لهذه الوكالة المهمة في الولايات المتحدة.
بدأت الحكومة الامريكية منذ لك الوقت في ضخ الاموال الكبيرة على الابحاث واستقطاب افضل العقول البحثية في الولايات المتحدة للعمل على اهم المشاريع التي تضمن بقاء الولايات المتحدة في صدارة العالم عسكرياً وتقنياً ومعلوماتياً. بطبيعة الحال، كانت احد اهداف إنشاء وكالة مشاريع الابحاث المتقدمة (ARPA) هو ضمان تفوق الولايات المتحدة في سباق الصعود للفضاء والذي بدأه الروس عندما أطلقوا القمر الصناعي سبوتنيك. ولكن مع تسارع العمل وتضافر الجهود تم تأسيس وكالة الفضاء والطيران الوطنية الأمريكية (The National Aeronautics and Space Administration)، والمعروفة عالمياً بوكالة ناسا (NASA) في 29 يوليو من عام 1958م، وتم تسلميها كل مايتعلق بسباق الصعود للفضاء، والذي كان يشهد تنافس كبير بينهم وبين الروس.
بدأت وكالة ARPA بالتوسع في عدد كبير من المشاريع، وكان من اهمها المشاريع الخاصة بالكمبيوتر والحوسبة (Computing). في عام 1966م كان الرجل المسؤول في ARPA عن مشاريع تطوير الكمبيوتر يدعى بوب تيلور (Bob Taylor). السيد تيلور بدأ مسيرته المهنية كعالم في أبحاث الدماغ، ولكن كان لديه اهتمام كبير في مجال الحوسبة. في تلك الحقبة، كانت اجهزة الكمبيوتر تعتبر من المتقنيات الثمينة جداً، حيث يصل سعر الواحد منها لملايين الدولارات، ولم تكن متاحة إلا في أضيق المجالات ولعمل بعض الحسابات المتعلقة بالرياضيات لبعض الجهات الحكومية المهمة فقط او الجامعات او الشركات الكبرى ولأغراض محددة، حتى أن أحجام اجهزة الكمبيوتر كانت ضخمة ويمكن ان يشغل الجهاز الواحد مساحة تصل لحجم شقة كاملة او عدد من الغرف في مبنى!
كانت وكالة مشاريع الابحاث المتقدمة (ARPA)، تدفع للجامعات التي لديها أجهزة كمبيوتر للعمل على المشاريع المتعلقة بالحوسبة، ولكن لم يكن السيد بوب تيلور راضياً عن نتائج تلك المشاريع، حيث لم تؤدي للتقدم الذي تطمح له وتبحث عنه وكالة ARPA. لذلك قام السيد تيلور، بالحديث مع رئيسه في ARPA السيد تشارلي هرزفيلد (Charlie Herzfeld)، وأعرب له عن عدم رضاءه عن نتائج المشاريع التي تعمل عليها اجهزة الكمبيوتر في الجامعات التي تدعمها ARPA مالياً. وأقترح السيد تيلور بأن يتم ربط الاجهزة في تلك الجامعات مع بعضها البعض وذلك لتتمكن من مشاركة المعلومات ونتائج الابحاث بدلاً من ان تعمل كل جامعة بعزلة عن الجامعة الأخرى.
وافق السيد تشارلي هرزفيلد على مقترح السيد تيلور بعد أن أقنعه الأخير بأنه يمكن ربط اجهزة الكمبيوتر في الجامعات ببعضها البعض وتكوين شبكة كمبيوتر، وقام تشارلي على الفور بدعم تيلور بمليون دولا ليبدأ بالمشروع! بدأ السيد تيلور التخطيط لبناء أول شبكة أجهزة كمبيوتر في تاريخ البشرية، حيث لم توجد شبكة لأجهزة الكمبيوتر قبل ذلك التاريخ! ولكن قبل البدء بالعمل، كانت أول وأهم خطوة قام بها السيد تيلور هو إختيار الأشخاص المناسبين للمشروع، حيث يحتاج مشروع بهذه الاهمية لخبراء مختصين لديهم القدرة على انجاز المشروع بالطريقة الصحيحة ليحقق اهدافه المرسومة. لذلك وقع اختيار السيد تيلور على احد اهم الخبراء في مجال الاتصالات والكمبيوتر في ذلك الوقت ويدعى السيد لاري روبرتس (Larry Roberts)، حيث عمل تيلور وربورتس سوياً في وقتٍ سابق على عدد من المشاريع في معمل ابحاث لينكون (Lincoln Laboratory) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (Massachusetts Institute of Technology – MIT).
ولكن المشكلة التي واجهت السيد بوب تيلور بأن السيد لاري روبرتس لايريد الانتقال من مركز ابحاث لينكون (Lincoln Lab)، وكان سعيداً في مكان عمله هناك. هذا الامر شكل تحدياً للمشروع الذي يريد السيد تيلور العمل عليه وهو بناء أول شبكة كبيموتر في العالم. ولكن تيلور كان مصراً على الاستعانة بخدمات لاري روبرتس لكونه يملك المهارات اللازمة لنجاح المشروع. لذلك ذهب تيلور مرةً أخرى لرئيسه السيد تشارلي هرزفيلد، وأستفسر منه بالسؤال التالي ”أليست وكالة مشاريع الابحاث المتقدمة (ARPA) تقوم بدعم مركز أبحاث لينكون (Lincoln Lab) بأكثر من 51% من ميزانيتهم المالية!“ أجاب السيد هرزفيلد ”بنعم!“، حينها اقترح تيلور على هرزفيلد بأن يتواصل مع المسؤول عن مركز أبحاث لينكون ويطلب منه ارسال السيد لاري روبرتس للعمل مع بوب تيلور على مشروع انشاء شبكة الكمبيوتر وإلا ستقوم وكالة ARPA بقطع الدعم المالي عن مركز لينكون للأبحاث! وبالفعل أعجبت الفكرة هرزفيلد وقام بالتواصل مع المسؤول عن مركز أبحاث لينكون. حينها، لم يكن من رئيس لاري روبرتس في مركز أبحاث لينكون إلا قبول طلب وكالة مشاريع الابحاث المتقدمة (ARPA) وإرسال لاري روبرتس ليعمل مع بوب تيلور على مشروع انشاء شبكة الكمبيوتر.
عمل بوب تيلور ولاري روبرتس على المشروع سويةً وشكلوا فريق عمل كبير لإنجاز المهمة! واجه الفريق العديد من التحديات، ولكن من خلال الحديث مع مختلف الاشخاص في الجامعات وحضور عدد من المؤتمرات للنقاش مع الخبراء والمختصين واشهرهم ويس كلارك (Wes Clark)، الذي قدم لهم أحد أهم الافكار الذكية لتكوين اول شبكة كمبيوتر في بداية عام 1967م، وكان ذلك خلال حديث جانبي جرى بين لاري روبرتس وويس كلارك حول كيفية جعل الجامعات تتعاون في ربط الأجهزة، حيث كانت تمتنع الجامعات حينها (لكن بشكل غير مباشر) عن التعاون في مشروع انشاء الشبكة، وذلك بسبب ان أجهزة الكمبيوتر لديها كانت مشغولةً طوال الوقت بالعمل على عمليات حسابية مهمة، لا يمكن ايقافها لغرض بناء الشبكة. كانت الفكرة الذكية التي قدمها ويس كلارك تتمحور حول بناء اجهزة وسيطة (IMPs) بين اجهزة الكمبيوتر في الجامعات تعمل كمترجم و تقوم كذلك بتمرير الرسائل بين تلك الاجهزة – عمل الـ IMPs هو عمل مشابه لعمل الراوترز Routers في الشبكات اليوم -. مقترح ويس كلارك شكل عامل مهم في نجاح بناء الشبكة في ذلك الوقت، وخفف الضغط عن اجهزة الكمبيوتر في الجامعات ووفر الوقت والجهد، وذلك لوجود أجهزة وسيطة تقوم بأداء الترجمة والارسال بين اجهزة الكمبيوتر في الجامعات، وهذا جعل الجامعات اكثر مرونةً في المساعدة في بناء الشبكة!
بعد العديد من الزيارات للجامعات والنقاشات في المؤتمرات وورش العمل، تم بناء نموذج للشبكة، ولكن كان التحدي الاكبر يكمن في اختيار الشركة التي يمكن ان تقوم بالعمل بنجاح، حيث كان يشكك الجميع بما فيهم شركات كبرى مثل AT&T وغيرها بنجاح فكرة مشروع بناء الشبكة. بعد عدة افكار ونقاشات، تم طرح منافسة بناء الشبكة وترسيتها على شركة صغيرة في مدينة كامبريدج في ماساتشوستس تدعى Bolt, Beranek and Newman (BBN)، حيث يعمل فيها أحد اكثر الاشخاص كفاءةً في ذلك الوقت في الاتصالات وهو السيد فرانك هيرت (Frank Heart). بعد ترسية المشروع على شركة BBN، قام السيد فرانك وفريقه ببناء الشبكة رغم التحديات الكبيرة التي واجهتهم، وبدأ الفريق العمل في بداية شهر يناير من عام 1969م وأنهى العمل وتم بناء الشبكة في أكتوبر من نفس العام (أي تم تنفيذ العمل في مدة 9 اشهر تقريباً). كانت تلك الاشهر حالفةً بالقصص التي يختلط فيها الاحباط بالعزيمة والاصرار، ولكن سادت العزيمة والاصرار اخيراً ونجح المشروع.
كان أول موقعين يتم ربطهما بشبكة ARPANET هما جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس (UCLA) ومعهد ستانفورد للأبحاث (SRI)، وتم إنشاء الاتصال الأول بين جهازي الكمبيوتر في الشبكة بتاريخ 29 أكتوبر 1969م. بعدها تم ربط بقية المواقع بشكل متتابع، لتكبر الشبكة شيئاً فشيئاً، ثم تسارع حجم الشبكة خلال السنوات التالية للعام 1969م، وشهدت فترة السبعينات والثمانينات الميلادية توسع للشبكة لتشمل مختلف المواقع في العالم، وهاهي اليوم شبكة الانترنت، لا يكاد يوجد بيت في مشارق الارض او مغاربها لم يرتبط بالشبكة العالمية الانترنت، والتي كانت فكرة من احدى افكار مشاريع وكالة مشاريع الابحاث المتقدمة (ARPA) – وهي الوكالة التي تم تأسيسها بأمر من الرئيس الأمريكي إيزنهاور لضمان بقاء الولايات المتحدة في قمة الهرم العالمي عسكرياً وتقنياً ومعلوماتياً.
ولعل الرسالة المهمة من هذا المقال، هو اهمية الابحاث ودورها في تقدم الدول وتطورها ونموها، حيث تلعب الابحاث دوراً كبيراً في كل الاكتشافات الحديثة التي ننعم بها اليوم، والدول الكبرى تخصص من ميزانياتها المبالغ الكبيرة لدعم الابحاث وتطويرها لتبقى في موقع اقتصادي وعسكري مهم.