دائماً ما يقول الأب او الأم في مجتمعنا العربي لابنه أو ابنته عبارة “عقبال ماتصير دكتور” او “عقبال الدكتوراة” – والمقصود هنا هو الحصول على درجة الدكتوراة وليس الطب -. هم يرددون مثل تلك العبارات دائماً لهدفين: (1) تشجيع الابن او الابنة وحثهم على الجد والاجتهاد، (2) الفخر بهم بين الاهل والأصدقاء والمعارف.
ولكن في الحقيقة، هل الحصول على شهادة الدكتوراة مطلب مهم؟ او هل تعتبر الدكتوراة هي أعلى سقف الطموح؟ التجارب والأدلة تخبرنا بأن الإجابة على هذا السؤال تعتمد على هدف الشخص والنظرة التي ينظر بها لنفسه وأين يريد أن يكون في المستقبل.
ليست كل الوظائف في حاجة لدرجة الدكتوراة او تريد الأشخاص الذين يحملون هذه الدرجة العلمية، بل إن بعض مسؤولي الموارد البشرية يتجنبون اختيار الاشخاص الحاصلين على درجة الدكتوراة في بعض الوظائف والتخصصات!!
ولكن في البداية وقبل الاستطراد في الموضوع، دعونا نعرف ماهي درجة الدكتوراة؟ حيث يجهل البعض ماهي هذه الدرجة العلمية والتي تتكرر على مسامعهم دائماً ولكن بدون فهم عميق لمعناها او المقصود بها.
الدكتوراة هي درجة علمية تأتي بعد مرحلة الماجستير والبكالوريوس، ويتم فيها التركيز على البحث العلمي وأساسياته. بعض الدول مثل بريطانيا وأستراليا يتم فيها التركيز بشكل أكبر على البحث العلمي اكثر من إعطاء الطالب مواد دراسية خلال مرحلة الدكتوراة، حيث ان وجهة نظرهم تكمن في ان الطالب درس مواد تخصصية كافية خلال مرحلة البكالوريوس والماجستير لذلك لحاجة في اعطاءه مواد تخصصية إضافية في مرحلة الدكتوراة، بينما في دول أمريكا الشمالية كالولايات المتحدة الامريكية وكندا، يتم فيها الدمج بين المواد الدراسية والبحث العلمي بشكل أكبر، حيث يقضي الطالب عام او عامين وربما ثلاث أعوام في اتمام المواد الدراسية الخاصة ببرنامج الدكتوراة قبل البدء في البحث العلمي، بل يصل الحال في بعض الجامعات بأن تشترط انه لن يتمكن الطالب من البدء في البحث العلمي مالم يحصل على درجات مرتفعة في المواد الدراسية التي اتم دراستها في مرحلة الدكتوراة.
طبعاً المواد الدراسية التي يقوم طالب الدكتوراة بدراستها عادةً ما تكون مواد متقدمة في التخصص الذي يقوم بدراسته، وليست مخصصه لطلبة البكالوريوس، حيث يتم في مواد الدكتوراة دراسة مواضيع متقدمة وتفصيلية وبشكل عميق اكثر من تلك التي يتم تدرسيها في مرحلة البكالوريوس. والهدف من ذلك هو زيادة حصيلة الطالب العلمية في تخصصه، وجعله شخص على إلمام واطلاع بشكل جيد بتخصصه من جميع النواحي.
نعود للبحث العلمي، الجزء المهم في برنامج الدكتوراة هو البحث العلمي، فلا يمكن تخريج طالب الدكتوراة وحصوله على الدرجة العلمية بدون أن يقوم بأجراء البحوث العلمية، واثبات تمكنه من ذلك للجنة العلمية التي تشرف عليه خلال برنامج الدكتوراة. لذلك توجد في كل جامعات العالم لجان علمية تختبر طالب الدكتوراة في أفكاره البحثية وتتأكد من ان هذه الأفكار مناسبة ويمكن تطبيقها والعمل عليها، واذا فشل الطالب في اقناع تلك اللجان بأفكاره البحثية فعليه إعادة صياغة تلك الأفكار البحثية او انه سيضطر لترك البرنامج ودراسة الدكتوراة.
من اعظم الفوائد التي يحصل عليها الطالب عند دراسته للدكتوراة، هي الاستقلالية او ما يمكن تسميته باللغة الإنجليزية (Independence). حيث ان الطالب يعتمد على نفسه في اغلب الأمور خلال مرحلة الدكتوراة. على الرغم من وجود مشرف للطالب خلال دراسته، ولكن دور هذا المشرف دائماً ما يكون محدود، حيث يقع على الطالب العبء الأكبر في البحث عن المواضيع البحثية والبحث عن الأفكار والحلول والمقترحات، ويبقى التوجيه الذي يقدمه المشرف الدراسي محدوداً وفي اضيق نطاق، وقد يحدث احياناً ان يصحح المشرف الدراسي المسار البحثي للطالب ولكنه بكل تأكيد لن يقوم بعمل اكثر من ذلك.
فالطالب خلال مرحلة الدكتوراة سيصبح امام موج هائل وضخم من الأفكار والكتب والمراجع المتنوعة، عليه ان يشمر عن ساعديه في التعامل مع كل ذلك ليتمكن من صياغة الأفكار والعمل عليها وتقديم الحلول المناسبة من خلال العمل البحثي الذي يقوم به.
كذلك، من اهم المهارات التي ينميها الطالب خلال دراسته لبرنامج الدكتوراة هي مهارة البحث والاستقصاء، فيجب أن يكون الطالب شخص غير ملول وصبور في البحث عن المعلومة، فمرحلة الدكتوراة هي مرحلة طويلة وتحتاج صبر وهمة، فبعض الأفكار البحثية لن تعطي نتائج واضحة إلا بعد أشهر وربما سنوات وربما عقود من الزمن، هذه هي طبيعة البحث العلمي، فمرحباً بك في عالم الأبحاث.
بعد هذا التوضيح والشرح عن ماهية مرحلة الدكتوراة، نعود للسؤال الذي طرحته في بداية المقال، هل تحتاج الحصول على درجة الدكتوراة؟ ان كان الهدف لديك واضح وتريد العمل في المجال الاكاديمي والبحثي، فالإجابة بكل تأكيد نعم. فقدرك هو ان تكمل دراسة الدكتوراة، فالاكاديمي والباحث وخاصةً في عالمنا اليوم، يحتاج الدكتوراة لإثبات نفسه في المجال البحثي والاكاديمي (وان كان بعض الباحثين المتميزين لا توجد لديهم درجة دكتوراة ولكن الكلام هنا على العموم وليس الحالات القليلة او النادرة).
اما ان كان الشخص لا يريد العمل في المجال الاكاديمي والبحثي، فالإجابة تختلف وتعتمد على المسار الوظيفي الذي يريده الشخص. في الواقع، قلة تلك الجهات الوظيفية التي تحتاج الدكتوراة في خارج المجال البحثي والاكاديمي. لذلك يجب على الشخص من معرفة المسار الذي يتمنى ويريد العمل به، وسؤال الأشخاص المختصين في ذلك المسار اذا ما كانت درجة الدكتوراة مهمه للتطور والتقدم الوظيفي في المسار محل الاهتمام. يمكن للشخص الوصول لأعلى السلم الوظيفي في بعض القطاعات الحكومية والخاصة حتى وان كان يحمل درجة البكالوريوس او الماجستير، حيث ان طبيعة العمل في تلك الجهات لا تتطلب الا الجد والاجتهاد والابداع لكي يتقدم الموظف في السلم الوظيفي.
افضل طريقة لتحدد ما اذا كنت بحاجة الدكتوراة ام لا، هي ان تعمل لعدة سنوات بعد حصولك على درجة البكالوريوس. دخولك لسوق العمل سيجعلك تفهم متطلبات سوق العمل اكثر وسيعطيك تصور افضل وسيجعلك تحدد ما اذا كنت بحاجة لدراسة الدكتوراة ام لا، ليس ذلك فقط، بس سيجعلك تختار الموضوع البحثي حتى قبل أن تبدأ برنامج الدكتوراة، وذلك لأنك عملت في المجال الذي تريده وأصبحت تعرف ومطلع على المشاكل و التحديات في ذلك المجال، وكونت رؤيا واضحة لذا انت الآن جاهز في الذهاب للبحث العلمي والدكتوراة وذلك لإيجاد حلول للمشاكل او التحديات التي واجهتها خلال عملك بعد مرحلة البكالوريوس.
عموماً درجة الدكتوراة هي اعلى شهادة علمية يمكن للإنسان الحصول عليها، وهي درجة ذات اعتبار وتقدير ليس محلياً فقط، وانما عالمياً، وهي مرحلة يتعلم فيها الطالب، الصبر والإصرار والاستقلالية والتفكير بطرق مختلفة وجديدة (Thinking out of the box) ، وهذا ما يميز حاملي هذه الشهادة غالباً – مع التأكيد بأن هنالك اشخاص ليست لديهم هذه الدرجة العلمية ويتمتعون بكل ما سبق.
العديد من الناجحين على مستوى العالم يختلف تحصليهم الدراسي، فالبعض من هؤلاء الناجحين حاصل على الدكتوراة والبعض غير حاصل حتى على درجة البكالوريوس. جرب واعمل وأسأل واستشر وحدد اولوياتك واعرف طموحك لتتمكن من الإجابة على السؤال الذي طرحته في بداية المقال (هل تحتاج تدرس دكتوراة ام لا؟)